صادق جلال العظم فيلسوف ومفكر سوري مخضرم. يقول بعض المثقفين إنه ليس مثيراً للسجال والجدل فحسب وإنما للزوابع والأعاصير، في عالم عربي يشهد انحساراً لدور العقل، ورجوعاً ليس فقط إلي التدين بل إلي التمذهب والتقوقع داخل الطائفة أو المذهب أو الحزب أو التيار.
ويرى بعض المثقفين أن من إيجابيات الدكتور العظم تحريكه للرمال الساكنة منذ قرون في الوعي العربي. ولعله من المفكرين العرب القلة الذين تماهي تفكيرهم مع سلوكهم اليومي في الحياة. ويضيف أن هذا ما نلمسه من خلال علاقات العظم بالمحيطين الاجتماعي والثقافي، فطالما كان الرجل قريباً من العامة ولم تكن علاقاته الاجتماعية حكراً على النخب، رغم كونه ينتمي إلى عائلة ارستقراطية.
قد تتفق أو تختلف مع العظم لكن ليس بوسعك إلا أن تحترم المقولات والأفكار والآراء التي يطرحها بحكمة ودراية الشيوخ وثقة وحيوية الشباب.. وذلك على الرغم من أن الرجل بات في العقد الثامن من عمره. فضلاً عن سعة صدره واعتماده المنهج الفكري والمنطق العلمي التجريبي.
ولد صادق جلال العظم في دمشق عام 1934 درس الفلسفة في الجامعة الأمريكية في بيروت، وعاد إليها أستاذاً عام 1963 أكمل تعليمه في جامعة “يال” الأمريكية. عمل أستاذاً جامعياً في الولايات المتحدة قبل أن يعود إلي دمشق عام 1962 ليعمل أستاذاً في جامعتها قبل أن ينتقل إلي التدريس في جامعة الأردن. عمل عام 1969 رئيساً لتحرير مجلة الدراسات العربية الصادرة في بيروت. من مؤلفات العظم “نقد الفكر الديني، النقد الذاتي بعد الهزيمة، ذهنية التحريم، ما بعد ذهنية التحريم، في الحب والحب العذري. وغيرها...”.
للوقوف عند آرائه ومواقفه حيال العديد من القضايا الإشكالية في عالمنا العربي تعيد صحيفة (14اكتوبر) نشر حوارين اجرتهما في الاسبوع الماضي كل من صحيفة (الراية) القطرية ، وصحيفة (الشرق الاوسط) السعودية ، بعد دمج الحوارين في نص واحد على النحو التالي:
- بالنظر إلي سيرورة العقل البشري. إلى أي مدى تغيرت قناعاتك منذ صدور كتاب “نقد الفكر الديني” وحتي الآن؟.
قناعاتي تغيرت بمعنى أنني أخذت بالمستجدات والتطورات الحادثة بعين الاعتبار. منذ هزيمة يونيو 1967 وأنا مرن بتفكيري، لا أتجمل ولا أتعصب عند موقف محدد. في كتاب نقد الفكر الديني وصفت ذلك الفكر في تلك الأيام بالبؤس. المقالة الأولي في الكتاب وهي الأكبر كان عنوانها “الثقافة العلمية وبؤس الفكر الديني”. الآن أنا أرى أن هذا البؤس قد تعمق وازداد. في تلك الفترة، بين عامي 1969 و 1970 كانت هناك محاولة من قبل المفكرين الإسلاميين للتعامل مع قضايا ومسائل العلم الحديث، كانوا يميلون إلي الاحتكام للنقاش والجدل إلي العقل والواقع وإلى مجري الأحداث. أما الآن فأنا أجد أن الفكر الديني الناشئ حول الإسلام في حالة أعمق من البؤس، بمعنى أننا الآن وصلنا إلي قضايا مثل فتوى إرضاع الكبير، علماً أنها ليست صادرة عن شيخ عادي وإنما عن رئيس قسم الحديث في جامعة الأزهر أو مرشد الأزهر. في الفترة التي كتبت فيها كتاب نقد الفكر الديني وناقشت الفكرة كان يصعب أن نجد مثل هذه الفتاوى. من هنا يمكن القول بأن هناك انحداراً كبيراًَ وابتعاداً عن الاحتكام إلي أي شيء عقلاني.
أشبه ذلك مثلاً بما يصدر أيضاً عن أوساط الأزهر من قبيل التبرك ببول النبي مثلاً، أو ما تردد عن حديث الذبابة.. وشيوع هذا الجانب أو المنحي الخرافي في الفضاء الإسلامي. أعتقد أن هذا يمثل انحداراً عن البؤس الذي تحدثت عنه بين عامي 1969 و 1970 عندما تكلمت في تلك الفترة عن بؤس الفكر الديني ناقشت بعض المفكرين الإسلاميين ورجال الدين مثل نديم الجسر مفتي طرابلس، وموسي الصدر وغيرهما.. في تلك الفترة لاحظت أنهم يريدون أن يتعاملوا مع العلم الحديث والثورة العلمية والتطبيقات العلمية لكنهم كانوا للأسف يجهلون أي شيء عن العلم الحديث. ما معني العلم؟ وما هي مناهج البحث العلمي؟. وربما لم تكن لديهم منذ أن تركوا الدراسة الابتدائية فكرة عن الفيزياء أو الكيمياء أو التشريح إلا من خلال ما يقرؤونه في الصحف. كانوا يريدون أن يتصدوا للأثر الاجتماعي الذي تتركه التطورات العلمية أو الفتوح التكنولوجية وهم عملياً في حالة جهل شبه كامل بها.
إذاً أنا أجد أن هذا قد تعمق الآن. هناك جهل أكبر، وهناك مواقف، خاصة في الإسلام الأصولي، ترفض العلم الحديث رفضاً قاطعاً، ترفض الغرب وكل ما أنتج. وإذا دفعت تفكيرهم إلي النتيجة المنطقية يصبحون طالبان في هذه المسألة. هم يمسكون بقضايا في منتهي السخف.. مثلاً أنا قرأت بعض فتاوى الإمام الخميني، والتي يطرح في أحدها صعود المسلم في كبسولة الفضاء ويناقش كيف سيقيم الصلاة ويتعرف علي اتجاه القبلة في الفضاء الخارجي؟. وفي الفضاء طبعاً لا يوجد شمال ولا جنوب، والكبسولة تدور بسرعة هائلة في مدار معين في الفضاء، أيضاً المسلم عندما صعد إلي الفضاء صعد بكبسولة روسية أو أمريكية لأن الكبسولة العربية أو الإسلامية غير موجودة أصلاً. المشكلة أن الخميني لم يرَ شيئاً من إنجازات وفتوحات وعلوم ومعارف وتكنولوجيا الفضاء، كل ما خطر في باله كيف يركع المسلم ويصلي، وإذا ما جلس لفترة طويلة كيف يصوم؟!. بعد هذا النقاش توصل الخميني إلي نتيجة أجاز فيها للمسلم بأن يصلي بالاتجاهات الأربعة. طبعاً هذا المنحي في التفكير ينم عن جهل كامل، فالاتجاهات هي مسألة عرفية، ولا يوجد اتجاهات أربعة في الطبيعة. الاتجاهات هي مسألة تعارفنا عليها شمال وجنوب شرق وغرب. مع ذلك هو اعتبر مع الأسف أننا إذا خرجنا من علي سطح الكرة الأرضية ما زال هناك اتجاهات !!
هم يتصدون لقضايا مثل أطفال الأنابيب أو ما يحدث مثلاً علي مستوي الحمض النووي “DNA” والاستنساخ.. وغيرها من الفتوح والاكتشافات العلمية. ليس لديهم أي معرفة بطبيعة هذه العلوم وكيف توصل إليها العلماء؟ وما هي التجارب التي سبقتها؟ لا يوجد لديهم ثقافة علمية، وهم راديكاليون في ذلك. هذا عند الشيعة، وهناك أيضاً عند السنة الشيخ عبد العزيز بن باز وهو كبير علماء المملكة العربية السعودية.
عقم فكري
- عفواً دكتور.. لا أدري إذا كان يمكننا الحديث بالأسماء.. ربما يكون ذلك حساساً لدي البعض؟.
إن كون الحديث في هذا الموضوع حساساً فهذا دليل إضافي كم أصبح وضعنا كارثياً.. علي كل أنا سأقول رأيي ويمكنك التصرف. في كتاب بن باز الصادر عام 1985 رفض كلياً فكرة كروية الأرض، كان يناقش المسألة علي أساس أن الأرض مسطحة!. رفض كلياً فكرة دوران الأرض حول الشمس... الكتاب موجود لدي وبإمكانك أن تتأكد من هذا الكلام. إذاً الأرض لا تدور حول الشمس وإنما الشمس هي التي تدور حول الأرض!. لقد أعادنا إلي الفلك القديم إلي ما قبل كوبيرنيكوس. طبعاً في هذا الكتاب كفّر بن باز كل من يقول بأن الأرض كروية وبأنها تدور حول الشمس. علي كل حال هو حرّ بآرائه. لكن الكارثة الكبرى أن أحداً لم يتجرأ لا من علماء الدين ولا من مؤسسات العالم الإسلامي من مشرقه إلي مغربه. من الأزهر والزيتونة إلي القرضاوي والترابي وكفتارو وكليات الشريعة... لا أحد تجرأ علي القول لابن باز ما هذا الهراء الذي تقول به باسم الدين الإسلامي؟!. وكونك تقول لي أن هذه مسألة حساسة.. فمعنى ذلك ان العلماء العرب غير مسموح لهم أن يردوا على الشيخ بن باز عندما يقول إن الأرض مسطحة ، وأنها ليست كروية ولا تدور حول الشمس ..وإنما هي تشرق وتغرب علي طريقة التفكير الفلكي القديم في مرحلة ما قبل كوبيرنيكوس القديمة ! هذه كارثة.. والكارثة الأكبر أننا لا نستطيع حتى مجرد الرد عليهم.
النقطة الثالثة أن المؤسسات الدينية الرسمية، وعلي رأسها الأزهر وكليات الشريعة ودور الإفتاء، وغيرها.. هي اليوم في حالة عقم فكري كامل. لا يخرج منها شيء سوي بضاعة من قبيل إرضاع الكبير، وحديث الذبابة والتبرك ببول النبي وجلد الصحفيين.. الساحة متروكة تقريباً للفكر الأصولي الجهادي، وهو الوحيد الذي يطرح أفكاراً جديرة بأن تناقش وترفض، وذلك بسبب عقم المؤسسات الرسمية الأساسية التي تعتبر قدوة، ليس فيها سوي التكرار والاجترار والتحجر والعودة إلي الماضي وحماية المصالح والإبقاء علي الوضع القائم والخضوع للسلطات الحاكمة. عندما تكون سياسة الدولة اشتراكية يصبح مفتي الإسلام اشتراكياً، وعندما يكون الحكام في حالة حرب يصبحون مع الحرب، وإذا جنحوا للسلم يسيرون وراءهم... هذا جزء من عقم هذه المؤسسات، وهو فراغ واضح في الفكر الديني، يملؤه أحفاد وأتباع سيد قطب مثلاً وهذا النوع من الإسلام الأصولي العنيف.
- في مؤلفاتك ومقولاتك تركيز على النقد. من النقد الذاتي بعد الهزيمة إلي نقد الفكر الديني.. والآن كلامك يحمل جانباً كبيراً من النقد. في مقابل نقدك للفكر والواقع الديني القائم هل تمارس نقداً ذاتياً لنتاجك الفكري؟.
في الواقع نادراً ما أرجع إلي الكتب التي ألفتها إلا إذا أرادوا إعادة طباعتها. مثلاً عندما طبع كتاب النقد الذاتي بعد الهزيمة مؤخراً، كتبت لهم مقدمة صغيرة. أما كتاب نقد الفكر الديني فقد أصبح شبه وثيقة لتلك المرحلة، ولذلك لا أرى أن من المناسب أن أغير أو أبدل فيه، خاصة أنه لم ينقطع عن السوق علي الإطلاق منذ صدوره وحتي الآن هو موجود بشكل دائم. لكني أراجع نفسي بالنسبة للأفكار بحيث آخذ بعين الاعتبار المستجدات الراهنة. مثلاً عندما كتبت عن سلمان رشدي والآيات الشيطانية، استخدمت بعض الأفكار التي كنت قد تناولتها بشكل جنيني في كتاب نقد الفكر الديني، وأعتقد أنني طورتها بما يتناسب مع الحالة المشخصة المعينة في مسألة النقاش الذي دار حول رواية رشدي. هناك أمور في الكتاب مر عليها الزمن، سقطت لأنها كأي كتاب وليدة أو نتاج مرحلة معينة. في أواخر الستينات كانت بلادنا في أوج التوجه القومي والاشتراكي والشعبوي، والكتاب متأثر بذلك بلا شك، هذه مسألة يمكن إهمالها الآن. الطريف في هذا الموضوع أو الملفت أن هناك الآن من يقوم بترجمة كتاب نقد الفكر الديني إلي اللغة الانكليزية، وسينشر قريباً، في ولاية أريزونا بالولايات المتحدة. طبعاً الكتاب كُتب عنه في الغرب كثيراً لكن لم يترجم كاملاً، ترجمت بضع مقاطع منه، والآن بعد 40 سنة علي صدور هذا الكتاب تنبهوا إلي أهميته بسبب الوضع الحالي. وقعت أيضاً منذ فترة قصيرة عقداً مع دار نشر فرنسية لترجمة الكتاب، أيضاً يريدون ترجمة الكتاب إلي الفرنسية.
في العالم العربي لم ينقطع، الكتاب كان موجوداً علي الدوام، هو ممنوع في كل مكان، لكن من يريد يستطيع الحصول عليه ولا مشكلة في ذلك. الآن هناك اهتمام بهذا الكتاب في الخارج ليس فقط علي مستوي قضية الكتاب ذاتها وإنما هناك رغبة بأن يكون النص متوفراً بالانكليزية والفرنسية.
تأثر الإسلاميين بالوجود الأجنبي
- إلي أي مدي في رأيك تأثرت الحركات الإسلامية الجهادية في عالمنا العربي بالوجود العسكري الأجنبي في المنطقة العربية وبالاحتلالات عموماً سواء الإسرائيلي أو الأمريكي؟.
الوجود العسكري الغربي في العالم العربي لم ينقطع، كان دائماً موجوداً بشكل أو بآخر. الحركات الإسلامية في فترة الحرب الباردة كانت حليفة للغرب لمواجهة المد الشيوعي والاتحاد السوفييتي. هذه الحركات عموماً مع بعض الاستثناءات غير معروف عنها بأنها بذلت جهوداً للتخلص من الوجود الأجنبي في البلدان العربية، وإنما كان ذلك لصيقاً بحركات التحرر العربي والمشروع القومي الشعبوي بقيادة عبد الناصر، وقد عشنا ذلك في الخمسينات والستينات. في تلك الفترة القوميون نجحوا نسبياً لكني لا أعتقد بأنهم نجحوا كلياً وبقي هناك تواجد أجنبي في بعض البلدان العربية. في التجربة الأفغانية مثلاً كان الحلف الإسلامي الغربي عسكرياً وحميماً ومباشراً من أجل محاربة الاتحاد السوفييتي آنذاك. لذلك لا أعتقد بأن الوجود العسكري الأجنبي هو سبب مباشر لاندلاع الانتفاضة أو العمليات التي قامت بها الحركات الجهادية أو ما جري مثلاً في الجزائر والسودان وسوريا ومصر في تلك الفترة.
أعتقد أن الحركات الإسلامية الجهادية كان لديها وهم بأنها قادرة علي إسقاط الإمبراطورية السوفييتية، لكنها نسيت أو تجاهلت أن هذا الهدف كان مستحيلاً دون التحالف مع الولايات المتحدة والغرب. هم يعتقدون بأنهم أسقطوها فعلاً وأن الله قدّر لهم ذلك وساعدهم علي إنجازه... وإذا سلمنا جدلاً بذلك، فلماذا هم عاجزون الآن عن إسقاط الإمبراطورية الأمريكية؟. هذه الحركات تلعب الإيديولوجيا دوراً كبيراً في قناعاتها وسلوكها، بمعني أنها تؤمن بوجوب عودة نظام الخلافة الامبراطوري ليتحكم ويسيطر في البداية علي الدول العربية والإسلامية ثم يمتد للسيطرة علي العالم. أعتقد بأن هذا الدافع قوي جداً لديها أكثر من مجرد وجود قاعدة للأمريكان أو للإنكليز هنا أو هناك في العالم العربي.
لكن أليس هناك ارتباط بين ظهور الحركات الإسلامية الجهادية كحماس وحزب الله وتعاظم دور القاعدة في العالم بالاحتلالين الإسرائيلي والأمريكي؟.
أنا لا أنكر أن هذا العنصر ساهم في بروز تلك الحركات وازدياد شعبيتها، لا سيما بعد إخفاق التيار القومي الذي يميل للعلمانية رغم أنه لم يتبناها كشعار أساسي كما حصل في تركيا مثلاً. وقد أدي ذلك إلي تعميق الشعور بالذلّ والتهميش والإحساس بالإخفاق، وخلق فراغاً فجائياً وغير متوقع، جاءت الحركات الإسلامية لتملأه. وقد التقط هذه الظاهرة بعد هزيمة يونيو 1967 عدد من النقاد كنت من بينهم في كتابي النقد الذاتي بعد الهزيمة وأيضاً في نقد الفكر الديني.
- إلي أي مدي ساهمت الشعارات التي ترفعها الحركات الإسلامية كالإسلام هو الحل مثلاً في استقطاب الناس واستمالتهم إليها؟.
لا شك بأن رفع شعار الإسلام هو الحل في بلد إسلامي هو شعار جذاب يستقطب الناس، لكني أعتقد أن هذا الاستقطاب سطحي عاطفي، لأن الناس عندما يدققون في ماهية هذا الشعار والبرنامج الذي ينطوي عليه يبدؤون بإعادة النظر والنقاش وتظهر تساؤلات ملحة من قبيل هل يعني الإسلام هو الحل عودة الخلافة مثلاً؟. وهل عودة الخلافة برنامج واقعي؟. الخ.. أنا أعتقد أن الخلافة يمكن أن تعود عندما يعود “البوربون” أو لويس السادس عشر لحكم فرنسا وعندما يعود القياصرة لحكم روسيا، وهناك حزب قيصري في روسيا يريد أن يقيم قيصرية دستورية فيها، فإذا نجح يمكن أن ينجح الإسلاميون بإعادة الخلافة. أما تطبيق الشريعة من وجهة نظر هذه التيارات فيمكن اختصاره بقانون العقوبات الذي يعني الجلد والرجم وقطع الأيدي والأرجل والرؤوس. الخ.. لكن ماذا سيحدث مثلاً لو أن فلاناً من الناس تعرض هو أو ولده أو أحد أقاربه لعقوبة الجلد أو قطع اليد وما إلي ذلك؟. في هذه الحالة سيرفض قانون العقوبات هذا.. يمكن أن يقبل بالتغريم أو السجن أو أي عقاب آخر لكن لن يقبل بالجلد أو الرجم أو قطع اليد.. وهنا تكمن المشكلة.
الإسلاميون عندما يصلون إلي السلطة كما حصل في السودان مثلاً يتحفظون ويخشون من تطبيق هذه العقوبات. فعندما تدقق في تفاصيل شعار الإسلام هو الحل تجد أن الناس قد توجست وتراجعت حول معني هذا الشعار. هل يعني أن تذهب إلي المسيحيين وتفرض عليهم الجزية؟. في دولنا مصر وسوريا مثلاً هناك مسيحيون استشهدوا في حروبنا مع إسرائيل، ويعاملون الآن معاملة الشهداء وأبناؤهم هم أبناء الشهداء، فإذا طبقنا الشريعة ماذا سيحدث لهؤلاء؟ وهل سيعتبرون شهداء أم لا؟ أليسوا شهداء ماتوا من أجل الوطن في حروب سيناء والجولان؟. كم من المسلمين في مصر أو سوريا يقبلون بذلك؟. وبالمناسبة مرشد الأخوان المسلمين السابق في مصر كان صريحاً حين دعا إلي إخراج المسيحيين من الجيش المصري باعتبارهم من أهل الذمة. أنا أعتقد بأن فكرة تطبيق الشريعة الإسلامية هي الأحكام العرفية عند الإسلاميين. عندما يستلم الضباط السلطة يعلنون حالة الطواريء وقانون الأحكام العرفية، وعندما يصل الإسلاميون يعلنون تطبيق الشريعة وبذلك لا يختلف هذا عن ذاك، وأنا أري أن الدور الأكبر لهما هو إرهاب الناس.
- هل يمكن القول إن الحركات الدينية هي نتاج أو رد فعل علي عجز الأنظمة العربية في الماضي والحاضر عن بناء دولة المواطنة؟. وبالمقابل هل يمكن لهذه الحركات أن تقيم دولة المواطنة في حال وصولها إلي الحكم؟.
أولاً: دولة المواطنة هي عملية تاريخية طويلة الأمد، ولا نستطيع القول إن هذا النظام أو ذاك فشل في بنائها. لكن يمكن القول إن هذا النظام ساهم في تحسين المناخ العام لقيام دولة المواطنة وذاك النظام تراجع أو أخفق. ثانياً: أعتقد بأن الإسلاميين لا يريدون دولة مواطنة تساوي الذمي بالمسلم السني في الدول العربية وبالمسلم الشيعي في إيران الذي ينبغي أن يكون شيعياً حتي يعتبر مواطناً درجة أولي. لكن في العموم أعتقد بأن القول بعجز الأنظمة عن بناء دولة المواطنة ساهم في بروز الإسلاميين صحيح جزئياً. وعلي كل حال مسألة المواطنة ليست مهمة بالنسبة للتيارات الإسلامية. الآن هم يتكلمون عن المواطنة لكني أشك كثيراً في جديتهم. لا سيما أن أحزابهم السياسية تقوم علي أساس طائفي بحيث تكون محصورة بالسنة أو بالشيعة أو بغيرهم.. الخ. عندما تقوم الأغلبية السنية بإنشاء حزب علي أساس ديني طائفي فإنها بذلك تكون قدوة لبقية الطوائف وتشجعها علي تأسيس أحزاب خاصة بها. وبالتالي فإن فكرة تأسيس أحزاب علي أساس ديني أو طائفي تعزز انهيار فكرة المواطنة. وأعتقد أن ذلك لا يقل خطورة عن إنشاء حزب على أساس عرقي في ألمانيا مثلاً لأن ذلك يعني العودة إلي النازية.
- هل ينطبق ذلك علي الحركات الإسلامية التي تؤمن بالانخراط في العمل السياسي والتداول السلمي للسلطة، حزب العدالة والتنمية في تركيا مثالاً؟.
التجربة التركية نموذج مهم جداً. لكن باستثناء تركيا فإن الأحزاب ذات الطابع الديني تعتبر أن لديها مهمة إعادة أسلمة المجتمع. إذا وصلت إلي السلطة سواء عن طريق الانتخابات أو بالانقلاب تتشبث بها لإتمام هذه المهمة. وأعتقد أن كلامهم عن تداول السلطة تكتيكي تملقي لا أعطيه أي أهمية. تركيا البلد الإسلامي الوحيد الذي يعتمد إيديولوجيا وعقيدة علمانية، وقد أعلن منذ بداية تأسيس الجمهورية التركية أن هذه الجمهورية علمانية، بمعني أنها محايدة دينياً.. هذا البلد هو أيضاً البلد الوحيد الذي أنتج حزباً ذا أصول إسلامية ولكنه ديمقراطي وقادر علي الوصول إلي السلطة بانتخابات نزيهة ويحكم دون أن تحل كارثة في البلاد. بدون علمانية تركيا فكرة أن الإسلاميين يتداولون السلطة كانت أيضاً مستحيلة. الشرط المسبق الذي سمح لتركيا لإنتاج حزب العدالة والتنمية هو كون الدولة بالأساس علمانية، وهذا غير موجود في أي بلد آخر. وهنا تكمن أهمية التجربة التركية.
- ماذا لو كان هناك مثل هذا الحزب في العالم العربي؟.
الآن هناك نقاشات تجري حول الإسلام السياسي التركي وتطور حزب العدالة والتنمية حتي وصل إلي السلطة ديمقراطياً. وإذا خسر الانتخابات هو مستعد لأن ينسحب ويصبح معارضة، وربما يعود مجدداً. وأعتقد بأن هذا النموذج من الإسلام السياسي غير موجود في العالم العربي.
- هل ذلك بسبب قبول حزب العدالة والتنمية في تركيا بقواعد اللعبة الديمقراطية؟.
نعم ولكن ذلك حصل بعد مخاض طويل وتطور تاريخي حتي وصل إلي قناعة بأن أي دور في الحياة السياسية التركية لهذا الحزب مشروط بالتقيد بقواعد اللعبة الديمقراطية. والمفارقة أن الإسلاميين الحاكمين في تركيا اليوم يريدون الانضمام إلي الاتحاد الأوربي المسيحي . ولهذا الغرض شطبوا من قانون العقوبات العلماني النصوص التي كانت تعتبر الزنا جريمة ، وهو ما لم يتجرأ على فعله غلاة العلمانيين منذ إلغاء نظام الخلافة وإقامة النظام الجمهوري في تركيا بعد ثورة الجيش بقيادة الجنرال كمال أتاتورك . لكن حزب العدالة الاسلامي شطب هذه النصوص من قانون العقوبات ، حيث اصبح الزنا في ظل حكم الاسلاميين عملا لا يعاقب عليه القانون كما هو الحال في الاتحاد الاوروبي المسيحي الذي يصر حزب العدالة الاسلامي على إنضمام تركيا الى عضويته ، بينما الجيش حامي العلمانية الأساسي يتحفظ على الفكرة ويعرقلها.
- من خلال احتكاكك بالمثقفين والمفكرين السوريين والعرب. هل أنت مطمئن لمستقبل الثقافة في سوريا والعالم العربي؟.
اطمئنان حذر جداً. أنا في هذه المسألة “متشائم بالنسبة للثقافة العربية عموماً. فيما يتعلق بسوريا هناك نشاط ملموس وحضور في الداخل والخارج رغم أن حوامل الثقافة وأدواتها ما زالت متواضعة جداً في سوريا. شعرت بهذا النشاط الثقافي منذ فترة ما يسمي “ربيع دمشق”. بعد سنوات طويلة من الرقابة والمصادرة وعندما شعر المثقفون السوريون بأن لديهم الفرصة للتعبير عن آرائهم والمساهمة في الحراك الثقافي والسياسي تبين أنهم مطلعون ومتابعون ولديهم أسلوب حديث في الكتابة وفي طريقة عرض الأفكار. المثقفون السوريون لديهم حضور متميز ولامع قياساً بعدد سكان سوريا وظروفها.
بالنظر إلي التطورات السياسية في الداخل خلال السنوات الأخيرة المتمثلة بإغلاق المنتديات واعتقال عدد من أعضاء المجلس الوطني لإعلان دمشق... هل يمكن إعلان النعي لأشهر العسل التي سادت بين المثقفين والسلطة والقول بأن ربيع دمشق قد تمظهر خريفاً دائماً؟.
كان هناك شهر عسل طويل بين المثقفين والسلطات. هذه العلاقة كان يشوبها دائماً المشاكل والتوترات. وبطبيعة الحال المثقفون الجيدون يميلون لانتقاد السلطة، والسلطة بدورها لا تحب النقد، وخاصة في المرحلة الشعبوية التعبوية التي مرت بها بلادنا، بحيث يكون الجميع كتلة واحدة تسير بالاتجاه الصحيح وتحت قيادة واحدة. المثقف في لحظات معينة يسير في هذا الاتجاه لكن يبقي له دائماً موقعه وخصوصيته. وبالتالي يمكن القول أن شهر العسل هذا كان صعباً ونادراً في بلادنا علماً أن المثقفين في هذه القضايا يدققون كثيراً، فالمسألة ليست مجرد عداء عبثي مطلق للسلطة، وكذلك ليست تأييداً أعمى وسيرا في الركب بعيون مغمضة. ولذلك أنا أرى أن الموقف النقدي المبدئي هو الأهم فيما يتعلق بدور المثقف كضمير داخل مجتمعه.
- لكن هناك من يقول إن ما تعيشه بلداننا من أزمات سواء علي مستوي الأنظمة أو المجتمعات ليس أكثر من نتاج لثقافتها السائدة. إلي أي مدى يصح ذلك؟.
أعتقد بأننا أحياناً عندما نتحدث بهذا المنطق نحمل الثقافة أكثر مما تحتمل. الثقافة ليست المحرك الأول لحياة المجتمع. ولا المحرك الأول للسياسات المتبعة. ليست المحرك الأول للتوجه التاريخي لهذا البلد العربي أو ذاك. هناك من يقول بذلك، لكن هناك أزمات علي مستوى آخر تنعكس في الثقافة السائدة للمجتمعات.
- هل ترى أن الأزمة هي علي مستوي السلطة أكثر منها أزمة ثقافة مجتمعية تنعكس بدورها علي الواقع العربي؟.
قد تكون أزمة سلطة أو اقتصاد أو أزمة نخب أو غيرها.. لكن لا يمكن القول أننا بسبب ثقافتنا نعاني كل هذه المشكلات.
- هل الأزمة الحالية التي نعيشها هي نتاج للسلطة أم لثقافة وتراث المجتمعات ذاتها؟.
الاثنان معاً. أي أن ثقافة الشعوب وتراثها فيها الكثير من المعوقات. وهناك في الوقت نفسه تردد وإحجام خاصة في الفترة الحالية، عن مراجعة هذه المعيقات، تحديدها، التدقيق فيها، نقدها... من أجل تجاوزها وإسقاطها. هذا التوجه بات ضعيفاً الآن، وهناك نوع من الخنوع والخضوع أمام التراث والأعراف والتقاليد.. سواء أكانت معوقة أم لا.
عندما ننظر إلي العالم العربي بشكل مبسط.. هو يستهلك كل شيء ولا ينتج شيئاً، باستثناء المواد الخام. ماذا يمكن أن نتوقع من العرب؟. انظر إلي العالم العربي من أقصاه إلي أقصاه لا يوجد قيمة مضافة حقيقية لأي شيء. هناك بنية يبدو أنها لا تشجع وغير صالحة لأي إنتاج. ماذا ننتج؟ ماذا نصدر؟ سواء أكان إنتاجاً مادياً أو اقتصادياً أو علمياً أو فكرياً.. الخ. انظر إلي كيفية إنتاج النفط مثلاً. ما علاقة العرب بصناعة النفط؟. هم يمتلكون البترول لكن استخراجه وتكريره وتسويقه والبواخر التي تحمله... كل ذلك لا علاقة لهم به. انظر إلى تلك المنشآت الكبرى الهائلة المعدة للتنقيب عن النفط واستخراجه وتكريره. انظر إلي القمر الصناعي العربي ماذا يوجد فيه عربي؟. أنا أشك في قدرة العرب علي تصنيع جهاز هاتف دون أن يستوردوا القطع والتقنيات اللازمة لذلك وربما الفنيين.
- هناك من يقول علي مستوي السلطات وحتي علي مستوي المثقفين والناس العاديين بأن المجتمعات العربية عموماً غير مؤهلة للانخراط في عملية ديمقراطية، ويستشهدون ببعض التجارب غير المشجعة في الجزائر ولبنان والعراق وفلسطين.. وغيرها. بل حتى علي مستوي التجمعات والأحزاب ومنظمات حقوق الإنسان التي طالما شهدت انشقاقات وانقسامات كان آخرها في ائتلاف إعلان دمشق السوري المعارض. هل يمكن لمجتمعاتنا العربية ببنيتها ومنظومتها الراهنة إنتاج ديمقراطية حقيقية تعيش وتستمر دون أن تخلف انقسامات وأزمات سياسية واضطرابات أمنية وصراعات وحروباً أهلية..؟.
يجب علينا أن ننطلق من حقيقة مفادها أن أي مجتمع في الأساس غير مؤهل للديمقراطية بشكل طبيعي. الديمقراطية هي عملية تراكمية تاريخية ومن الخطأ أن نأخذ موقفاً تعجيزياً بأنه طالما نحن عشائريون قبليون طائفيون فعلينا إلغاء فكرة الديمقراطية برمتها ونقول إنها لا تناسبنا وينبغي أن نغلق الباب أمامها. في الصين يقولون رحلة الألف ميل تبدأ بخطوة.
أنا مع المحاولات والتجارب، وهناك تجارب سابقة يمكن الاستفادة منها. أنا لست يائساً أو مستسلماً رغم إدراكي لصعوبة المسألة والتعقيدات الكامنة في بنيتنا. لكن بالأساس لا أحد كان لديه بنية مناسبة أو صالحة للديمقراطية.
نحن مثلنا مثل غيرنا يمكن أن نتعلم، يمكن أن نحقق 20 بالمئة، ثم 30 و40 و50 وهكذا. العملية تراكمية وتتوقف علي الخطوات التي نتخذها ونسير بها وعلي إعداد الناس في المدارس والمؤسسات التعليمية وتأهيلهم باتجاه ممارسة ديمقراطية تدريجية. وإلا أصبحنا محكومين بمقولة “كما تكونون يولى عليكم”، عشائريون يولى عليكم عشائر.
متخلفون يولى عليكم متخلفون. قبليون يولى عليكم قبائل. طائفيون يولى عليكم طوائف.. الخ. وبذلك نقع ضمن دائرة محكمة الإغلاق لا مخرج منها. أو ينطبق علينا القول العربي “الناس علي دين ملوكهم”. فإذا كان الملك ديمقراطياً كلنا نصبح ديمقراطيين. وإذا كان الزعيم أو القائد ديكتاتوراً كلنا نصبح ديكتاتوريين... وكأننا نحكم علي أنفسنا بالعيش في وضع سكوني لا فكاك منه، وأنا أرفض ذلك.
- هناك من يشكك في قدرة العقل العربي الراهن على إنتاج ديمقراطية تصمد وتستمر. هل ترى أن هذا العقل العربي قادر علي إنتاج ديمقراطية تعيش وتستمر وتصبح منهجاً وسلوكاً اعتيادياً في بلداننا؟.
يصعب علي العقل العربي ببنيته الراهنة إنتاج الديمقراطية، لكني لا أعتقد بأن هذا العقل ثابت أزلي. أنا أقبل بنموذج ناجح بحدود 30 بالمئة، رغم أننا حتى الآن غير قادرين علي تحقيق ذلك. في لبنان هناك ديمقراطية طوائف، هناك محاصصة، ليست ديمقراطية تقوم علي أساس المواطنة, النظام السياسي في لبنان يمنع الديكتاتورية بحكم التوازنات القائمة علي أساس طائفي، لكنه لا يحقق ديمقراطية حقيقية تقوم علي أساس المواطنة. وكذلك الأمر في العراق الذي يسير في ذات الاتجاه.
- ما الذي يفتقده العقل العربي حتي يستطيع قبول الآخر أو الشريك في الوطن كما هو. ماذا يحتاج حتي يستطيع تحقيق هذه المعادلة المستحيلة الحل حتي الآن؟.
هذه المسائل يتعلمها الفرد نتيجة قسوة البدائل التاريخية. ويمكن أن نستحضر في هذا السياق العراق كمثال. أنا أري أن العراقيين إذا أرادوا الحفاظ علي وحدة بلدهم وتجنب حرب أهلية طاحنة، فعليهم أن يتعلموا من هذه الأحداث التي يمرون بها دروساً تاريخية. الأكثرية الشيعية في العراق لا تستطيع القول بأن الديمقراطية تعني حكم الأكثرية وتسكت. يجب أن تقول بأنها تعني حكم الأكثرية مع حفظ حقوق الأقليات، وأقصد الأقليات السياسية وليس بالضرورة الأقليات العددية العرقية أو الدينية.. هم يقولون نحن أكثرية وبالتالي نحكم، والديمقراطية هي حكم الأكثرية وهذا يجانب الصواب. الديمقراطية هي حكم الأكثرية مع حفظ حقوق الأقليات وإلا فإن البلاد ستواجه الانقسام والحرب الأهلية والخراب.. هذه المسألة يجب أن يتعلمها العقل العربي، بأن يقبل بالآخر ويقبل بوصول الأقلية نفسها إذا ما رتبت تحالفاتها لتصبح أكثرية دون أن تمارس الإقصاء أو تنتقم من الأكثرية بعد وصولها إلي السلطة.
في العراق أيضاً هناك أحزاب وتيارات إسلامية كثيرة من مذاهب مختلفة. هل هي قادرة علي تطبيق الشريعة علي الطريقة الشيعية أو السنية مثلاً؟ إلا إذا كانت مستعدة لخوض حرب أهلية طاحنة. ماذا تتعلم من ذلك إذا كنت لا تريد حرباً أهلية ولا تفتيت البلاد؟. تتعلم حكماً أن تقيم دولة لا سنية ولا شيعية بل دولة تقوم علي أساس المواطنة والحق والقانون والعدالة الاجتماعية. هذه القناعة تأتي نتاج دروس تاريخية. لكن هناك من يتعلم بسرعة وهناك من لا يتعلم أبداً. في لبنان مثلاً لم يتعلموا، مروا بحرب أهلية طاحنة لمدة ستة عشر عاماً، وبالنظر إلي ما يجري الآن يشعر المرء أنهم لم يتعلموا شيئاً منها، خصوصاً فيما يتعلق بالمسألة الطائفية.
- فيما يخص الشأن اللبناني. أثار رأيك في وصف انتصار حزب الله بالانتصار غير المظفر جدلا واسعا، سواء في الندوة التي عقدت في مكتبة الأسد في معرض الكتاب الأخير، أو في مقابلتك مع جريدة الأخبار اللبنانية.. هل ما زلت عند رأيك هذا؟.
لم يطرأ شيء يجعلني أغير رأيي. خاصة بعدما سمعت السيد حسن نصر الله يعترف بأنه لو كان يعلم بأن عملية أسر الجنديين ستؤدي إلي هذه النتيجة لما كان سمح بها. هناك تعبير يقول بأن هناك نصراً بيروسياً ، بمعني أن كلفة هذا النصر باهظة جداً لدرجة تشعرك بأن وضعك بعد النصر ليس أفضل من وضعك قبل النصر. طبعاً السيد نصر الله كان عنده ما يكفي من الجرأة والصراحة ليعترف بذلك.
- ماذا عن وصف النصر بأنه نصر إلهي؟.
هناك اعتبارات كثيرة وراء ذلك تتعلق بالتعبئة والمعتقدات وغيرها.. لكنني أرى أننا بهذه الطريقة نسلب هؤلاء الأبطال الذين قاتلوا وصمدوا شيئاً من كفاءتهم ومقدرتهم وذكائهم. ربما أصبح الآن حزب الله عسكرياً وجهوزياً أقوى من السابق، لكني أرى أن هذا الحزب في وضع لا يحسد عليه بالنظر إلي الانعطاف من الكفاح ضد إسرائيل نحو اللعبة الداخلية اللبنانية وتضييع طاقات الحزب في زواريب السياسة الصغيرة في لبنان. فهو اليوم بدلاً من مقارعة إسرائيل وجنرالاتها، يقارع وليد جنبلاط والحريري وغيرهم من السياسيين اللبنانيين.
- ربما يأتي ذلك من شعوره بأنه مهدد في حال جاء رئيس لبناني وحكومة تعمل علي نزع سلاح حزب الله؟.
أنا أتحفظ علي كلمة مهدد. هذه الكلمة أكبر من واقع الحال.. أنا أشعر عندما أكون في لبنان بأن الآخرين مهددون من طرف على هذا المستوي العالي من التسليح والقوة والتنظيم والتدريب كحزب الله.
- هل ترى أن مرجعية حزب الله هي أولاً وأخيراً في إيران؟.
لا شك بأنهم يحسبون حساباً لإيران وسوريا أيضاً. لكن أنا غير مقتنع بمسألة التبعية الكاملة. أعتقد بأن لديهم حساباتهم الحزبية والوطنية. هذه المقولة باعتبارهم تابعين لإيران وسوريا مثل مقولة النصر الإلهي. لا شك بأن من يمول ويسلح ويساعد يمتلك وزناً ورأياً وتأثيراً، وهذا أمر طبيعي. مثلما كانت حركة فتح في الماضي تتأثر بتوجهات عبد الناصر، أو القيادة في سوريا تؤثر علي التنظيمات الفلسطينية... هذا جزء من الحراك الطبيعي للعلاقات والتحالفات السياسية والانكسارات التي قد تمنى بها. عرفات كان أحياناً يصطدم مع سوريا وأحياناً يقول إنها رئة المقاومة.
- لماذا يكتب صادق جلال العظم ولمن؟.
يضحك .. أعتقد بأن الكتابة بالنسبة لأستاذ جامعي هي في الأساس جزء من البحث العلمي. في البداية كتاباتي كانت مرتبطة بدراستي للفلسفة الأوروبية الحديثة. لكن ما دفعني للكتابة في قضايا الشأن السياسي أو العام هو هزيمة يونيو 1967 لو طرح أحد ما عليّ أمر الكتابة قبل ذلك الحين وقال بأنني سأكتب بعض الكتب التي كتبتها لاحقاً، لاتهمته بالجنون وقلت بأنني لن أخوض في هذه القضايا. كان يمكن أن أعطي رأيي انطلاقاً من متابعتي واهتمامي بالشأن العام، لكني ما كنت لأخوض في هذه القضايا لولا الصدمة التي أحدثتها هزيمة حرب 1967 .
كتبت قبل هزيمة العام 1967 للمهتمين بالشأن الفلسفي، كنت أكتب للمثقفين ممن لديهم استعداد لأخذ مواقف تنويرية وتقدمية ولتطوير الأفكار والمواقف والثقافات علي أساس الحركة النهضوية التنويرية العربية. أما بعد العام 1967 فكان التوجه إلي القوي الفاعلة في مجتمعاتنا. في تلك المرحلة جميعنا أصبنا بالصدمة والإحباط. فأصبحت أكتب للجميع لأننا جميعاً كمثقفين كنا نريد أن نقول شيئاً، إذ لا يمكن أن يحصل شيء بهذا المستوي من الكارثية دون أن تقول شيئاً كمثقف.
- هل كانت نتائج وأصداء كتاباتك في تلك المرحلة مرضية بالنسبة إليك؟.
من ناحية الأصداء، كانت هناك أصداء كبيرة، وأعطت مفاعيل كانت أحياناً غير مريحة لي. لكنها كانت مفاعيل وأصداء واسعة، مثلاً كتاب نقد الفكر الديني المؤلف من مئتي صفحة كتب عنه حوالي 1500 صفحة، وهذا جزء من حيوية الثقافة في تلك المرحلة. عندما كانت تطرح فكرة نقدية تثير الجدل بهذا الشكل الواسع الذي جري. أيضاً كتاب النقد الذاتي بعد الهزيمة كتب عنه الكثير وترك أثراً كما كتب عنه في الغرب.
- هناك بعض الأسماء التي يتقاطع أو يقترب نهجها من نهجك كمحمد شحرور ونصر حامد أبو زيد وجمال البنا وغيرهم.. إلى أي مدي تتفق أو تختلف مع هؤلاء؟.
في الخط العام نلتقي كثيراً. أما في التفاصيل حيال المواقف من بعض القضايا المحددة فيمكن أن يكون هناك تباين وأحياناً نقد وسجال. لكن الخط العريض واحد، وأنا أعتبره خطاً نهضوياً تنويرياً نقدياً ونحن بحاجة إلي هذا الخط كثيراً.
- هل لديك نشاطات أو مشاريع جديدة على صعيد التأليف والكتابة النقدية في التراث والحداثة والفكر والثقافة؟.
أنا كما تعلم متقاعد من جامعة دمشق. وأدرس حالياً كأستاذ زائر في عدد من الجامعات الأوربية والأمريكية. أهتم بموضوعات العالم العربي وقضايا الإسلام والحداثة، وخاصة ما يتعلق بالتيارات الأصولية من خلال التدريس والمحاضرات والدراسات والمقالات. في الفترة الأخيرة لم أنشر شيئاً باللغة العربية، لكني نشرت كثيراً بالإنكليزية، وترجمت لي دراسات وكتب بست أو سبع لغات أوروبية.
- هل نفهم من ذلك أنك قطعت الأمل من القاريء العربي فاتجهت إلى القاريء الغربي؟.
لا أبداً لم أقطع الأمل.. لكن أنا بحكم السن وغيره.. لم يعد لدي الطاقة أو المقدرة على أن أكتب وأنتج كما كنت في السابق. في أحيان كثيرة أنشر كتاباً أو دراسة باللغة الإنكليزية ثم أعيد كتابتها للقارئ العربي أو العكس. طبعاً هذا ليس ترجمة. وإنما أنا أطرح فكرة علي القاريء العربي ثم أتساءل كيف أقولها وأصيغها للقاريء الأجنبي باللغة الإنكليزية أو الفرنسية دون تشويهها؟. وهذا يستهلك جهداً ووقتاً. عندما كنت شاباً وكان لدي وقت وطاقة أكبر كانت قدرتي أكبر، لكن الآن الأمر الآن بات أصعب عليّ. عندما كتبت مثلاً دراسة نقدية عن كتاب “الاستشراق” لادوارد سعيد، كتبتها بالانكليزية ثم بالعربية وباللغتين كان لها ردود فعل وأثارت نقاشاً وجدلاً واسعاً.
ستصدر لي قريباً دراسة باللغة الانكليزية بعنوان “الاستشراق والمؤامرة”. أيضاً صدر لي مؤخراً دراسة في المجلة الأوروبية “يوريبيان ريفيو” التي تصدرها الأكاديمية الأوربية للعلوم والآداب، تناولت فيها المناقشات الجارية الآن في الشرق الإسلامي والغرب العلماني حول موضوع علاقة الدين بالعلم. وهي تتضمن نوعاً من العودة لنقد الفكر الديني. هناك نقاشات تجري الآن في أوروبا وأمريكا خاصة بعدما فتح بابا الفاتيكان الجديد هذا الموضوع.
أيضاً لدينا قضية أسلمة المعرفة، وأنا أعمل عليها حالياً. ماذا تعني؟ وهل تعني وضع المعرفة العلمية في خدمة الإسلام؟ أم تعني أن هناك علماً خاصاً الإسلام يكتشفه أو يخترعه؟ وإن لم يكن الإنسان مسلماً لا يعرفه أو يدركه أو لا يستطيع أن يصل إليه وأشياء من هذا القبيل... في السابق بعض المنظرين المتطرفين البروليتاريين والشيوعيين طرحوا فكرة أن العلم السائد هو علم برجوازي ويجب صناعة علم بروليتاري...
طبعاً هذه الفكرة سخيفة وتافهة وفاشلة.. ويبدو لي أحياناً وكأن بعض من يدعون إلي أسلمة المعرفة يعيدون السيرة ذاتها، كأنهم يريدون القول بأن هناك فيزياء أو كيمياء برجوازية أو غربية أو مسيحية وفيزياء أو كيمياء إسلامية أو شرقية.. وكيمياء وتشريح وتكنولوجيا. الخ...
- منذ مئة سنة تقريباُ بدأت أفكار التنوير تعصف بالمنطقة العربية، وبزغ في هذا الفضاء كثيرون من طراز الكواكبي والأفغاني وشبلي شميل وسلامة موسى وقاسم أمين وطه حسين ومنصور فهمي وغيرهم. وكان الفكر الاجتماعي يتجه صعوداً من التنوير والعلمانية إلى الماركسية والثورة. أما الآن فيبدو أن اتجاه الفكر ينحدر نزولاً من الثورة الى التنوير. وراح الكثيرون من الماركسيين يخلعون عباءاتهم، ويلطفون انتماءاتهم وينتسبون إلى العلمانية كأنهم وجدوا في الفكر العلماني ملاذاً يقيهم صولة السلفية الدينية المتوثبة. هل تجد في هذا الوصف صدقية معينة؟ وإلى أين ستتجه البوصلة في المستقبل القريب؟
تشخيصك سليم على العموم. لكن، وفي الوقت نفسه وبمراجعة للذات، أعتقد أن مسألة العلمانية كقضية كانت دائماً متضمنة في الفكر اليساري. لكن لأسباب تكتيكية لم تكن تعلن أو يحكى عنها. كان تبرير ذلك أنها تهرب الجماهير، والجماهير مؤمنة وما إلى ذلك من كلام ألفناه. لم تكن هذه وجهة نظري بالتأكيد، إلا أنه كان للأحزاب والتنظيمات اليسارية حساباتها وتكتيكاتها واجتهاداتها العملية.
في رأيي، العلمانية مسألة مهمة جداً. فالشيوعية والرأسمالية اقتتلتا واختلفتا على كل شيء تقريباً بما في ذلك الموسيقى والرقص والأدب وحتى الرياضيات في بعض اللحظات. ولكن ثمة مسألة لم تقتتلا عليها قط هي العلمانية. أي أن التجربة الشيوعية التي عرفناها منذ ثورة أكتوبر 1917 كان فيها قاسم مشترك أساسي واحد على الأقل مع المعسكر المضاد أو المعادي هي بقاء العلمانية كضرورة من مستلزمات العصر لا يمكن الاستغناء عنها من دون الارتداد إلى شيء قروسطي ما، أي الخروج من العصر نهائياً. بعد انهيار النظام الشيوعي في بولونيا، حين حاولت الكنيسة في لحظة انتصارها التدخل في مسألة العلمانية باتجاه الحد منها وتصفيتها إن أمكن، حدثت ردة فعل فورية وشعبية لمصلحة علمانية المجتمع ومؤسساته ودولته وضد الارتداد عن إنجاز الحد الأدنى هذا، إذ لا مواطنة ولا مساواة أمام القانون ولا ديمقراطية جدية من دون مجتمع مدني علماني. في بلد مثل بولونيا يعرفون أنه على الرغم من كل شيء فإن الشيوعية خدمتهم بعلمنة المجتمع والدولة وهم ليسوا على استعداد للتخلي عن هذا الإنجاز التاريخي الهائل. في العالم العربي اليوم يتكلم نقاد العلمانية بمنتهى السطحية عليها قائلين أننا لسنا في حاجة إليها لأن العلمانية نشأت في أوروبا في مواجهة الكنيسة، والإسلام ليس فيه كنيسة. حسناً، لننظر إلى الهند . العلمانية هناك هي أكبر مدافع عن منع تحويل المسلمين من مواطنين إلى ذميين عبر الإطاحة بعلمانية الدولة وتحكيم الهندوسية فيها رسمياً. أضف غلى ذلك أن ليس في الهند كنيسة أو دين توحيدي واحد أو حتى لغة واحدة. ومع ذلك فإن مسألة العلمانية تؤكد نفسها اليوم ليس كوجهة نظر، بل كمسألة حياة أو موت ولا سيما للأقليات غير الهندوسية بما فيها الأقلية المسلمة. أجد ديماغوغية بعض مفكري العرب البارزين (وهم علمانيون في كل ما يتعلق بحياتهم الشخصية والمهنية العامة والمهنية) في نقدهم للعلمانية وهجومهم عليها مدعاة للقرف الشديد ونفاقاً لا أحسدهم عليه.
- ذكرت سابقاً أن العلمانية شرط من شروط الديمقراطية، أي ديمقراطية المواطنين، لا ديمقراطية الطوائف أو القبائل أو العشائر. وإذا كانوا لا يحبون كلمة علمانية فلا بأس وفي إمكانهم تسميتها حكومة مدنية. لن أناقش في التسميات لكنني لا أعتقد أن الديمقراطية ممكنة من دون حد أدنى من المجتمع المدني العلماني الذي يتجاوز الولاءات الطائفية أو الجهوية أو المذهبية أو العشائرية ويستوعبها في علاقة المواطنة وقيمها من دون أن يعني ذلك أن في العلمانية حلاً سحرياً للمشكلات والتوترات والصراعات المعروفة. أقول هذا لأننا نعيش هذه الأيام في مرحلة تكثر فيها الدعوات إلى الحلول السحرية الوحيدة الواحدة: الإسلام هو الحل، الديمقراطية هي الحل، الثورة هي الحل، العلمانية هي الحل ... إلخ. أي البحث عن حلول خلاصية سحرية تنقذنا من جميع المعضلات بضربة واحدة؟!!
أقدم في هذا السياق، تعريفاً للعلمانية بحدودها الدنيا يقول إن العلمانية هي الحياد الإيجابي للدولة وأجهزتها ومؤسساتها إزاء الأديان والطوائف والمذاهب والاثنيات التي يتألف منها المجتمع المعني بها.
قدمتُ هذا التعريف لأن العلمانية بمعانيها وممارساتها القصوى غير معروضة علينا واقعياً في الوقت الحاضر ولا طائل منها في النقاش الجاري في شأن الموضوع حالياً في العالم العربي. لا تفرض الحدود القصوى أو العليا للعلمانية نفسها عادة إلا في اللحظات الثورية الكبرى كما في الثورة الفرنسية والثورة البلشفية. أما علمانية الحركة الكمالية في تركيا فكانت في منزلة بين المنزلتين أو هي أدنى بقليل من حد الوسط بينهما. ولا شك في أن علمانية الناصرية كانت أضعف من علمانية الكمالية.
- التيارات السلفية المعاصرة، ترى في العلمانية خصماً حقيقياً. أنت، هل ترى في السلفية الجديدة خصماً حقيقياً؟
نعم، هي خصم جدي. ولكن تقويمي العام للسلفية لجديدة (أو الأصولية الإسلامية)، أنها في الأساس، ردة فعل أكثر مما هي فعل انشائي جديد، ولا تنطبق عليها شروط النهضة أصلاً. إنها ردة فعل على أوضاع معينة. لنأخذ، على سبيل المثال، نشوء حركة الإخوان المسلمين في مصر سنة 1928. أنا لا أفصل بين ثورة سنة 1919 التي وصلت فيها البرجوازية المصرية، والإسلام المصري استطراداً، إلى مرحلة نضج جديدة وإلى مرحلة تأكيد نفسها وتنفيذ نزعاتها التحديثية. ومع أن الثورة فشلت، إلا أن عملية تحديث كبيرة وواسعة حدثت في مصر بين سنة 1920 وسنة 1930.
- ظهر، وقتذاك، طلعت حرب كرمز من رموز التحديث.
طلعت حرب وبنك مصر وكل هذه التوجهات. لا أفصل نشوء الإخوان المسلمين عن ردة الفعل على هذا النوع من الحراك في الحياة العربية. ثمة طريقة أخرى في فهم الظاهرة. قلنا ان هناك إصلاحاً دينياً حدث، وكثير من الباحثين يشبّهون محمد عبده، بمارتن لوثر. ونحن نعرف أن حالات الإصلاح التي يسمونها تستتبع دوماً ما يسمونه (إصلاح ديني مضاد). وأنا أرى نشوء الإخوان المسلمين أنه نوع من الإصلاح الديني المضاد. إذا درسنا تاريخنا الحديث نلاحظ أن ثمة ميلاً إلى مقاومة الاستعمار. وقد بدأت مقاومة الاحتلال الاستعماري بشكل ديني مثلاً في النموذج الكلاسيكي الليبي الجزائري. قاتلته قوى تقليدية، وقاتلت جيداً وخلقت أبطالاً ونماذج عظيمة. جرت المعارك كلها في الفيافي والسهوب والبوادي. لكن المقاومة أخفقت في النهاية. أما في المرحلة الثانية فانقلبت المقاومة إلى المدن، وهي التي حققت الاستقلال. وهذا علامة من علامات تراجع دور الشأن الديني في مواجهة الاستعمار، لا كقوة تعبوية لأن هذه موجودة دوماً، بل كتنظيم وحركة وقيادة وأفكار وأيديولوجيا ووعي وأهداف.
أعطتنا المرحلة الجديدة مصطفى كامل وسعد زغلول بدلاً من سليمان الحلبي ومشايخ الأزهر. أعطتنا الأحزاب وفكرة المواطنة والوطن وشعار “الدين لله وا لوطن للجميع”، كما رسخت أموراً أخرى مثل التظاهر والإضراب والاعتصام والعصيان المدني وأساليب الاحتجاج المديني المعروفة وأحلتها محل ما يسمى عادة بحركات العامة في المدن وتمردها وشغبها. هذه واحدة من نقاط تراجع الديني في الحياة العامة للمجتمع. خذ نظام التعليم، كمثال آخر، الذي انسحب، رويداً رويداً، من أيدي رجال الدين والمؤسسات الدينية واستبدل بنظام مدني حديث. خذ كذلك التشريع والقضاء حيث حدث الشيء ذاته. وبمناسبة ذكر القضاء يجب ألا ننسى أبداً، عند مراجعة هذه المسائل وتقويمها، انطباع الإعجاب الهائل الذي تركته طريقة تعامل الفرنسيين مع سليمان الحلبي لدى الجبرتي لحظة قيام الشاب الوافد من شمال سورية بقتل الجنرال كليبر، خليفة بونابرت في مصر. لم يمزق الجنود الفرنسيون الجاني إرباً إرباً على الفور وفقاً للطريقة المملوكية المعهودة، بل حاكموه محاكمة جدية أعطته المجال كله للدفاع عن نفسه وفقاً لأعراف القضاء الفرنسي الحديث وإجراءاته. أعتقد أن هذه الحادثة تتجاوز بكثير مجرد تسجيل مؤرخ تقليدي مثل الجبرتي انطباعاته الشخصية لأنها تحيل، في الواقع، إلى اتجاه تاريخي كامل وجديد في حياة مصر وبقية المجتمعات العربية. إنها رمز لانعطافة حقيقية في حركة تطور هذه المجتمعات لاحقاً. هناك إذن ميل عام إلى تحويل الدين والتدين إلى الشأن الفردي والشخصي والعائلي، ما يعني تراجع الهيمنة الدينية وتراجع سيطرتها على الحياة العامة للبلدان العربية المركزية. صار كل من الإيمان وممارسة الشعائر متروكاً إذا لم يكن للفرد وحده فللأسرة. صار عادياً أن ترى في الأسرة الواحدة ابنة متدينة وابناً ملحداً وابنة أخرى في منزلة بين المنزلتين كما يشهد على ذلك أدب نجيب محفوظ.
أعتقد أن الحركة الأصولية، إذا درسنا أفكارها بتمعن، هي ردة فعل على هذه التطورات العميقة والجذرية. وإلا ما معنى الدعوة إلى إعادة تطبيق الشريعة الإسلامية؟ معناها أن الشريعة الإسلامية غير مطبقة، وهذا صحيح. أي أن الأصولية هي استعادة الوضع الذي كان سائداً في السابق، أي أسلمة المجتمعات الإسلامية.
ماذا يعني هذا الكلام؟ إنه نوع من الإدراك والاعتراف بأن الهيمنة والسيطرة السابقة للدين تراجعت في الحياة العامة لهذه المجتمعات لمصلحة شيء آخر. والأصولية تحاول استعادة مواقع فُقدت. بهذا المعنى هي حركة “رجعية” واسترجاعية بالمعنى الحرفي للعبارتين.
كل قضية الحسبة في مصر، مثلاً، هي محاولة عودة إلى تجريد الفرد من حقه المكتسب حديثاً باتخاذ قراراته الحرة إزاء مسائل مثل الاقتناع الديني أو غيابه، ممارسة الشعائر أو عدم ممارستها. هنا منبع عدائهم للعلمانية وللديمقراطية. فالديمقراطية تفترض حرية الضمير وحرية المعتقد وهذه الأشياء كلها مرفوضة عند الأصوليين.
بعد فشل المشروع القومي الشعبوي واليساري سنحت الفرصة لهم لاسترجاع الخسارة التاريخية التي لحقت بهم و استعادة المواقع التي ما زالوا يظنون انها من حقهم وحق أمرائهم ومشايخهم. من هنا رفضهم أعظم شعار رفعه التاريخ العربي الحديث:”الدين لله والوطن للجميع”. ودعوتهم صراحة، وبالتالي، إلى إخراج الأقباط من الجيش المصري ومنعهم الخدمة فيه. هنا تبقى نقطة أخيرة تتعلق بالعلمانية. في بلد مثل تركيا خاضت حرباً منتصرة ضد خصومها، بعد هزيمة الدولة العثمانية نهائياً، استطاع مركز الإمبراطورية القديم ممثلاً بشخص مصطفى كمال إعلان علمانية الدولة الجديدة وفصل الدين عنها بصورة رسمية ومن قمة هرم السلطة المنتصرة. أما في أطراف الإمبراطورية العتيقة، أي الولايات العربية، فإن أياً من هذه التطورات والإنجازات لم يكن ممكناً بسبب ضعفها الشديد وتشتتها. لذا جاءت عمليات علمنة الحياة العربية العامة بحكم الأمر الواقع De facto ، أي كسلسلة من الوقائع والإجراءات والتطورات والتحولات المتتالية والمتراكمة بلا إعلان رسمي يفصح عن علمانيتها وبلا خطاب علماني متبلور وواضح وصريح يعبر عنها. العلمنة العربية الواقعية جاءت بطيئة ومترددة وحلوة وخجولة ومساومة حتى آخر لحظة. إنني مقتنع أنه لو قام الرئيس عبد الناصر بإعلان فصل الدين عن الدولة رسمياً لحظة تأميم قناة السويس لنجح الإجراء ولربما تغيرت أشياء كثيرة، لأن تلك اللحظة عربياً شبيهة بلحظة انتصار أتاتورك على جيوش الغزو والاحتلال التي كانت تعمل على تمزيق بلاده. وفي مجال آخر يرى الأصوليون أن علمانية الأمر الواقع De facto العربية هذه أخطر بكثير من علمانية أتاتورك، لأن الثانية معلنة رسيماً وبصراحة ووضوح، أما العلمنة العربية فهي تسللية؛ تسري في المجتمعات سرياناً خفياً مع الإبقاء على الغطاء الديني بشكل أو بآخر.
- ثمة هجوم لا يهدأ، في هذه الأيام، على أفكار التنوير وعلى المفكرين التنويريين، أين يكمن في رأيك النبع الذي تستقي منه هذه الظاهرة جرأتها وقدرتها؟
أعتقد أن مصدر المشكلة ليس الأفكار التنويرية نفسها بالضرورة. يكمن مصدر المشكلة في ارتباط أفكار التنوير بمشروع سياسي اجتماعي تحرري كبير الذي نسميه بالمشروع القومي أو النهضوي أو حركة التحرر العربي أو الثورة العربية وما شابه، وانتهاء هذا المشروع إلى أزمة وانهيار وانسداد وإخفاق. أعتقد أن هذه الواقعة هي التي تجعل الكثير من القوى تتجرأ على مهاجمة المشروع كله أحياناً، والأفكار التي رافقته أو أتت معه أو ارتبطت به بشكل من الأشكال في أحيان أخرى.
كنا في الستينات، كتيار يساري، لا ننتقد أفكار التنوير ذاتها وإنما أوجه القصور في عصر النهضة. وذلك من مواقع بدت لنا يومها أكثر راديكالية وتقدمية. أي أننا كنا نرى أن عصر النهضة لم يكن جذرياً كفاية، ولم يكن ثورياً تماماً، وننتقد التعلق المرضي به. كنا نضيق بهذا الترداد الدائم لأسماء محمد عبده والكواكبي والأفغاني وغيرهم وكأن شيئاً مهماً لم يطرأ على حياتنا منذ أيامهم.
طبعاً، كان انتقادنا مبنياً على فرضية تقول أن المناخ القومي الجماهيري الجديد والحركة الناصرية وحركة التحرر العربي تجاوزت، من حيث المبدأ، عصر النهضة وأفكاره، ولذلك لا بد الآن من انتاج فكر ملائم ومطابق وأكثر تقدماً من فكر عصر النهضة. تبين أننا كنا ضحية تفاؤل كاذب إذ دمرت هزيمة حزيران 1967 الفرضية التي أوهمتنا بأننا تجاوزنا، أو تمكنا من تجاوز، عصر النهضة ومشكلاته وأفكاره. الآن، يبدو لي أن هناك تراجعاً إلى خط الدفاع الثاني أمام الهجوم الآتي من اليمين، وخصوصاً اليمين الديني. علماً بأن هجوم أعضائه لا يتركز على التنوير وقيمه فقط وإنما على عصر النهضة برمته. وهم صريحون في التعبير عن هذا النقد ويعتبرون أن مصائبنا كلها أتت بسبب عصر النهضة ومعه ومنه، وكان يجب ألا يكون هناك نهضة ولا من ينهضون. والغلاة منهم يمجدون الحقبة العثمانية وربما المملوكية والسلجوقية قبلها. أنا أجد نفسي الآن، مع آخرين كثيرين، في موقع الدفاع عن عصر النهضة وإنجازات عصر النهضة وأفكار التنوير. كما أعتقد أن قيم التنوير جديرة بأن يدافع عنها، ويدافع عنها بقوة، ولا سيما أن هناك خطأ آخر ارتكبه اليسار يتمثل في إهماله القيم المرتبطة كلاسيكياً بالتنوير. أعني استخفاف الخطاب اليساري والممارسات اليسارية بأمور مثل المجتمع المدني والديمقراطية وحقوق الإنسان والمواطن والحريات العامة والعلمانية ... إلخ. وكلها أصبحت موجودة الآن على جدول أعمالنا بقوة. لم يدرك المشروع اليساري (وأصحابه) بأنه كان عليه أن يستوعب هذه الأفكار والقيم والممارسات بحيث تصبح جزءاً من حياتنا الفكرية والعملية إذا كان جاداً حقاً في تجاوزها إلى ما هو أرقى. وهنا أقول أن ياسين الحافظ كان المفكر اليساري الأبرز الذي سبق الجميع وأشار إلى هذه المسألة ووعي أهميتها ونبه إلى خطورتها، في الوقت الذي كان اليسار يعتبرها إما مسائل ذات صلة بالديمقراطية البرجوازبة أو إنها ستأتي بشكل عفوي مع انتصار الثورة. أضف إلى ذلك ان التحولات الاجتماعية والاقتصادية والسياسة والثقافية الواسعة التي طرأت على المجتمعات العربية المركزية ودولها منذ الخمسينيات تفرض اليوم وجود هذه القيم مجدداً في الحياة العربية وبصورة أكثر إلحاحا مما سبق.
- في ما يتعلق بالمجتمع المدني، ألا تعتقد أن عرض مثل هذه الفكرة الآن متأخر على التاريخ كثيراً، ولا سيما أننا ندخل في عالم جديد عناوينه الكوكبة أو العولمة. والمجتمع المدني الذي أنجزته أوروبا منذ زمن طويل أخلف وعده في بلادنا. الآن نعود إلى هذه الفكرة بعد فشل المشروعات القومية واليسارية. هل ستفوتنا أيضاً الفرصة التاريخية لبناء مجتمع مدني ديمقراطي مثلما فاتتنا الوحدة القومية والسوق العربية الواحدة من محمد علي الكبير حتى جمال عبد الناصر؟
وصفك للوضع صحيح. ثمة كثير من الأمور نحن متخلفون عنها قرناً أو قرنين. ويخطر لي، أحياناً، أن العرب أهملوا القرن العشرين وراحوا يتأرجحون بين أصالة ومعاصرة، بين ماض وحاضر، بين تجديد وتقليد، بين إسلام وعلمانية ... إلخ. تأرجحوا على امتداد 130 سنة من غير أن يحسموا أمرهم على شيء، وقد يستمر هذا الوضع فترة طويلة. خذ المثال التالي: كانت ثقافتنا ثقافة شفوية أمية، إلى أن بدأت الكتابة تفرض نفسها على الجميع. لكن قبل أن تأخذ الكتابة مداها الكامل في حياتنا وتمحى الأمية نشأ نوع جديد من الثقافة الشفوية على مستوى تكنولوجي أعلى: التليفزيون، الفيديو، الشبكات الفضائية... إلخ.
أي جاءتنا المرحلة الشفوية الأعلى حتى قبل استكمالنا المرحلة الكتابية. إن مسألة المجتمع المدني تشبه بأكثر من معنى هذا المثال، ولا أرى حلولاً سهلة للمعضلة. ومن مواقعنا الآن ليس أمامنا إلا الدفاع عن فكرة المجتمع المدني وتعميقها وتعميمها مع التذكير دوماً بأن المجتمع المدني هو شيء غير المجتمع الأهلي التقليدي. لا شك عندي في أن الدولة التحديثية لعبت الدور الأهم في إنشاء المجتمع المدني وإرساء قواعده في الحياة العربية، وراح هذا المجتمع الآن يطالب الدولة نفسها بحقوقه المهضومة من جانبها. كانت الدولة أول من أدخل فكرة سيادة القانون على الجميع، لكن المجتمع المدني هو الذي يطالب اليوم بتطبيق الفكرة والتقيد بها، في حين أن الدولة هي التي تتلكأ، لأن في ذلك انتزاعاً لسلطات ومواقع وامتيازات وحيازات ...الخ. وهذه معركة أرى لا بد من خوضها في الوقت الحاضر.
- يلاحظ في كتاباتك وفي محاضراتك كأنك لا تفرق بين مفهوم النهضة ومفهوم التنوير. وأرى أن التفريق بين الاثنين ضروري منهجياً، وتاريخياً. لو سمحت لي أن أوضح فأقول: إن العالم العربي، في تاريخه المعاصر، لم يشهد عصراً نهضوياً حقاً، بل شهد ظهور مفكرين متنورين أطلقوا أفكاراً ذات مضامين تقدمية، واقتصرت النهضة، إلى حد ما، على المجال الفكري فقط. ذلك لأن مفهوم النهضة هو مفهوم تاريخي شامل يتعلق بشعب راح يستيقظ ويتصدي لكي ينهض بمختلف جوانب حياته الحضارية والسياسية والثقافية والاجتماعية والاقتصادية.
والحال أن ما يسمونه “عصر النهضة” والذي يؤرخون له بحملة نابليون بونابرت على مصر سنة 1798 لم يكن عصر نهضة بهذا المعنى؛ فكيف تكون ثمة نهضة والعالم العربي كان يتعرض، وقتذاك، لحملة ا ستعمارية فظيعة قطعت أوصاله تقطيعاً؟ إن ما فعلته حملة بونابرت هو أنها أذهلت الناس ونبهت الغافلين وأيقظت الأفكار وأجبرت النخب على التصدي للجديد والطاريء، ثم ألزمتهم الإجابة عن أسئلتها الجديدة. وليس بالضرورة أن يترافق التنوير مع النهضة، فظهور المفكرين المرموقين والأعمال الفكرية والنقدية اللامعة التي سطعت في سماء العالم العربي بعد الحملة الفرنسية يمكن أن نجد على غرارهم في عصر الانحطاط أيضاً مثل ابن خلدون والقلقشندي والأبشيهي وابن مالك وبهاء الدين العاملي وجلال الدين السيوطي وابن منظور ( صاحب لسان العرب) والزبيدي (صاحب تاج العروس) والفيروزي آبادي (صاحب القاموس المحيط) قضلاً عن ابن تيمية وابن القيم الجوزية وابن خلكان والقزويني وابن العبري وأبو الفداء ولسان الدين بن الخطيب وابن بطوطة والمقريزي، فهؤلاء جميعاً ظهروا في ما اصطلح على تسميته ب”عصر الانحطاط”. كيف تنقد هذا الرأي؟
أنا لا أوافقك الرأي تماماً، لأنني اعتقد أن خلفية ما سمي بـ “عصر النهضة” و”التنوير” هو حركة التنظيمات في الدول العثمانية. فمن غير حركة التنظيمات ما كان لهذه المسائل كلها أن تظهر أصلاً. بعبارة ثانية كان هناك شيء مادي عملي ما يتحرك قبل ظهور قيم التنوير والنهوض والتقدم وما إليه. بدأت الحركة نحو سنة 1830، وشرعت في ما بعد بفرمان وجاءت، على ما أعتقد، نتيجة عاملين: يتمثل الأول في المعلومات التي أخذت تتجمع على امتداد 50 - 60 سنة لدى النخب العثمانية عما يجري في أوروبا من تقدم عسكري وعلمي هائل. وفي الوقت نفسه كانت الدولة تخسر مقاطعاتها الواحدة تلو الأخرى أمام التوسع لأوروبي الغربي من ناحية، وأمام التوسع الروسي من ناحية أخرى. وتمثل العامل الثاني في الضغط على الدولة الآتي من تحت نتيجة نشوء طبقة وسطى حديثة، بعد الاختراقات الرأسمالية والامتيازات، صار لها مصالح وأهداف إصلاحية. إذاً كان النظام العثماني يتعرض لضغطين: ضغط من الأعلى، أي من نخب تدرك ما يجري حولها، خصوصاً في القارة الأوروبية فأخذت تخاف على نفسها وعلى مستقبل دولتها، وضغط من الأسفل أي من فئات لها مصالح حيوية في تبديل النظام العثماني وتعديله وتحديثه ... الخ. جاءت إصلاحات محمد علي باشا الكبير ضمن إطار التنظيمات العثمانية، بشكل عام. وما كان لعصر النهضة أن يحدث من دون ما أسسه محمد علي بعجره وبجره، بفشله ونجاحاته. إن قولك بعدم وجود مشروع نهضوي أصلاً ليس دقيقاً تماماً. ولا معنى للتنوير وأفكاره وقيمه ودعواته خارج هذا السياق، لذا لا يمكنني الفصل بين التنوير والنهضة على الطريقة التي اقترحتها.
بعبارة ثانية، تشكل كل من حركة التنظيمات وإصلاحات محمد علي باشا الأساس المادي والخلفية التاريخية للتنوير ولما نسميه بعصر النهضة وثقافته عموماً. من جهة أخرى أريد أن ألحظ أيضاً أن عصر النهضة العربي، كما الأوروبي قبله (وكذلك الهندي على ما أعتقد)، ليس عصر مؤسسات ومدارس فكرية متبلورة ومشاريع شبه جاهزة وما اليه، بل عصر شخصيات كبيرة وقوية هي في وقت واحد من نتائج الماضي ولكنها ترهص بما قادم وتحمله وتبشر به. يبقى عصر النهضة، حيث توجد نهضة، عصراً انتقالياً مائعاً بالضرورة أشبه بالجسر بين ما فات وبين ما هو آت. وعصر النهضة العربي ليس استثناء من هذه القاعدة.
- في معرض الحديث عن العلمانية، ثمة تعاريف كثيرة لها، كيف تعرف أنت العلمانية؟
عرّفت العلمانية مرارا بأنها: الحياد الإيجابي للدولة إزاء الأديان والمذاهب والإثنيات التي يتألف منها المجتمع. وهذا التعريف يناسب العالم العربي، وأعتقد أننا إذا لم َنسِر في هذا الاتجاه، فالبديل هو حرب أهلية. في العراق مثلا لا تستطيع الدولة تطبيق الشرع الشيعي أو السني أو المسيحي، لذلك فالحل هو في تطبيق قانون محايد، هو القانون المدني. وإذا لم يريدوا كلمة حكومة علمانية نقول حكومة مدنية لأن البديل عنها هي حرب أهلية.
- بعض المفكرين الإسلاميين يقولون: إن العلمانية في العالم العربي ابتدعها نصارى الشرق لمساواتهم كأقلية مع المسلمين، ما رأيك بذلك؟
أنا مع المساواة بين المواطنين سواء كانوا مسلمين أو مسيحيين أو غير ذلك، كما أن هذا لا يقلل من شأن العلمانية في حال ابتدعتها الأقليات المسيحية أو غيرها. في الهند مثلا أكبر مدافع عن علمانية الدولة الهندية هم المسلمون لأنهم أقلية. لنفترض أن الدولة الهندية أرادت أن تعامل الأقلية المسلمة في بلدها كأهل ذمة، لا يخدمون في الجيش ويدفعون الجزية، هل سيقبل العالم الإسلامي ذلك؟ لكن المسلمين في المقابل، عندما يكونون أكثرية ليسوا على استعداد ليمنحوا نفس المساواة للأقليات الدينية الأخرى، ويتهمون الغرب في نفس الوقت بأنه مزدوج المعايير، وهم لديهم معايير عدة. فمثلا المسلمون في الهند هم مع العلمانية، لكنهم في مصر يريدون دولة إسلامية، وفي إيران دولة إسلامية شيعية.
- يلجأ بعض المفكرين ومنهم جورج طرابيشي إلى اعتبار العلمانية “إشكالية إسلامية - إسلامية” قبل أن تكون إسلامية-مسيحية. بمعنى آخر أننا في البداية علينا حل مشكلة الطوائف بين المسلمين قبل أن نفكر بحلها بين الأديان، ما رأيك بذلك؟
أعتقد أنه في مجتمع متعدد الطوائف والأديان مثل سورية ولبنان والعراق ومصر، إذا لم تكن المواطنة هي الأساس فالبديل هو الخراب. وهذا كاد أن يحدث في مصر في إحدى الفترات حين اعتبر الإخوان المسلمون أن المسيحيين هم أهل ذمة، لذلك يجب ألا يخدموا في الجيش ولا يمكن اعتبار قتلاهم شهداء، ويجب عليهم في المقابل أن يدفعوا جزية. لذلك أعتقد أنه ليس من مخرج سوى القبول بفكرة المواطنة أمام القانون، أي تطبيق الإسلام على طريقة تركيا.
- لكن هل يمكن تطبيق النموذج الإسلامي التركي في العالم العربي؟
لا يمكن تطبيقه كما هو، لكن يمكن الاستفادة والتعلم منه، لأن النموذج التركي له خصوصيته. وتركيا هي البلد الوحيد الذي استطاع أن يجمع بين أمرين: تاريخ طويل من العلمانية المتشددة، وبنفس الوقت أنتجت هذه العلمانية حزبا إسلاميا ديموقراطيا حقيقيا قادرا على استلام السلطة عبر انتخابات حرة نزيهة، لا غبار عليها. وهو مستعد في حال خسر الانتخابات أن ينسحب ويصبح معارضة، ويعيد ترتيب نفسه ليستلم السلطة في المستقبل. وهي حالة فريدة في العالم الإسلامي، وهنا تكمن أهمية علمانية الدولة التركية، أنها سمحت لنمو وتطور الإسلام السياسي التركي لكي يتحول إلى حزب ديمقراطي. وهذا ما لم يحدث في أي بلد إسلامي آخر.
- وكيف يمكن الاستفادة من هذه التجربة عربيا؟
هناك بعض الحركات الإسلامية في العالم العربي، استفاد من التجربة التركية كحزب الاخوان المسلمين في مصر الذي وضع برنامجاً لإصلاح الدولة والاقتصاد، متأثرا إلى حد كبير بالتجربة التركية. وهناك محاولات أخرى في مصر لتشكيل أحزاب إسلامية على طريقة حزب العدالة والتنمية في تركيا وهو ما يفعله منتصر الزيات الآن. لدينا أيضا حزب الوسط المُحارب من قبل الحكومة والإخوان التقليديين. وبذلك نستطيع القول: إننا نلمس نوعا من المخاض لتيارات إسلامية سياسية تعيد النظر بنفسها بعد العنف الذي مارسته لسنوات طويلة.
- هل يمكن القول بإمكانية انسجام الإسلام، في الوقت الحالي، مع مصطلحات مثل العلمانية والديمقراطية والعلم الحديث؟
أعتقد أن الإسلام التاريخي العملي والحياتي، قادر على الانسجام معها، لأنه انسجم في وقت سابق مع مجتمعات البداوة والإمبراطورية، كما انسجم فيما بعد مع الدولة الصناعية الحديثة. لكن إذا أخذت الإسلام بمعنى انه نظام مثالي مغلق، فعندها لن ينسجم إلا مع نفسه. وبعض الناس لا يتحدثون الآن عن الإسلام الواقعي التاريخي والمعاش، لكنهم يتحدثون فقط عن مجموعة مبادىء مثالية. وبرأيي أن هذه المبادىء المثالية هي للملائكة وليست للبشر، لأنهم لا يستطيعون تطبيقها، وقد قلت ذلك للشيخ القرضاوي في حوار سابق معه.
- ما رأيك بمحاولات بعض المفكرين الإصلاحيين أمثال فاطمة المرنيسي ومحمد شحرور ونصر حامد أبو زيد لتطوير الفكر الإسلامي؟
أحترم جميع هذه المحاولات، وتربطني علاقة جيدة ببعض هؤلاء المفكرين. لكن القضية تكمن في أن عملية الاجتهاد في تحديث الإسلام وتطوير أفكاره، تخرج من جماعات وأفراد من خارج المؤسسات الدينية التقليدية التي تنتج عادة رجال الدين. ومثالنا على ذلك، الأفكار الهامة التي طرحها نصر حامد أبو زيد لكنهم كفّروه وسفروه من مصر وهو يقيم الآن في هولندا. هذا إضافة إلى أفكار محمد شحرور وسيد القمني الذي أسكتوه، وفرج فودة الذي قتلوه، في حين نرى أن المؤسسات الدينية التقليدية كجامعة الأزهر والزيتونة وكليات الشريعة، تعاني حالة من العقم والتكرار والتلقين. ولا يقف الأمر عند ذلك، بل تعاني هذه المؤسسات من حالة انحدار كبيرة، بدأنا نلمس بوادرها في فتوى إرضاع الكبير والتبرك ببول النبي وحديث الذبابة على نحو ما أوضحته سابقا .
كما أن فكرة التقريب بين المذاهب التي يطرحها البعض، تأخذ طابعا خطابيا يفتقر إلى المعالجة الحقيقية للمشكلات القائمة. والبعض يقول نحن متفقون في الأصول لكننا مختلفون في الفروع، لكنني أعتقد أن الاختلاف يكمن في كل شي حتى في الأذان. وأرى أن التغيير الحقيقي في الفكر الإسلامي لا يمكن فرضه من الخارج، إذا لم ينبع من المؤسسات الدينية التقليدية التي يجب أن تقوم بحراك جدي لمواجهة مشكلات العصر الحقيقية.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق