الأربعاء، 16 نوفمبر 2011

عن أي فتنة يتحدثون ؟

يمثل في هذه الفترة صاحب قناة نسمة على المحاكم دون أن نعرف لائحة الاتهامات الموجهة اليه من طرف جيش من المحامين تم توكيلهم مهمة الحديث باسم “الهوية و العروبة و الاسلام” و مدافعين عن أحقية قمع الحريات تحت شعار المقدسات فيما بات يعرف بقضية عرض “فلم بيرسوبوليس” ، و أنا هنا لست بمدافع عن صاحب القناة بل أحاول فهم خفايا هذه المحاكمة و ألتي و ان لم يتم البت فيها قضائيا فان نتيجتها شعبيا بادية للعيان و هس لتهام القناة و صاحبها بتأجيج “الفتنة” ، فعن أي فتنة يتحدثون ؟

الحقيقة أن كلمة فتنة جزء لا يتجزأ مسلسل التخوين و ألذي دأبت الأنظمة العربية القديمة الدكتاتورية بغرسه في عقلية الشعوب فكل صوت معارض هم “خائن عميل” و كل رأي مخالف هم “باحث عن الفتنة و تقويض الأمن العام” ، و بعد أن توسمنا خيرا في ثورة رفعت شعار الحرية و الكرامة آملين أن تتحرر الأفكار و الآراء معها بدأت تطفو على السطح مظاهر هي أبعد ما يكون عن شعارات الثورة و أهدافها ، فاظافة الى تنامي نظرية المؤامرة جاءت ظاهرة التكفير و الدفاع عن “ هوية الأمة و اسلامها” لتصبح عبارة الفتنة حاملة لطابع عقائدي ، فعرض فلم هو هتك للمقدسات ، و النساء الديمقراطيات متفرنسات و مشجعات على تحلل أخلاق نساء الأمة العفيفات ، و العلمانيون كفار و ضد “العروبة و هوية الأمة” و هكذا عادت على الساحة سلسلة الاتهامات ألتي أبدعها الفكر القومي المنهار و ما تلاه من دكتاتوريات فردية ممزوجة بنكهة اسلامية للأحزاب الحاملة للتراخيص “الالاهية” للكلام باسم الدين و الهدف هو القضاء على أي فكر مخالف و رأي معارض للسائد .
و اذا كانت دولنا العربية الفقيرة اقتصاديا و التابعة سياسيا تحمل شعار الفتنة فماذا عن الدول الغربية المتقدمة ؟ أليس الأجدر أن تكون هي الحاملة لهذه الشعارات بما أن الخطر يتهددها هي قبلنا نحن بما أن لها أعداء أكثر و أخطارا أعظم تتهددها ؟
في الحقيقة أن الدول الغربية و بعد تبنيها لأكثر الأنظمة الدكتاتورية قديما فتحت عينيها لتؤسس للفكر الليبرالي و ألذي يسمح للجميع أن يعب عن رأيه مهما كان معارضا للحكومات أو الآراء السائدة في المجتمع ، فمن وثائقيات تنقد السلطة و مؤسساتها الى أفلام تنتقد المقدسات و لنأخذ مثالين بسيطين لذلك و نبدأ بفلم “ دافنشي كو” و هو مثال على نقد بل هتك أهم هذه المقدسات و هو شخص المسيح نفسه و ألذي يتم تقديمه على أساس اقامة علاقة مع عاهرة و هي “ماريا المجدلية” و الانجاب منها في الخفاء و هو بالنسبة للمسيحيين “ابن الالاه” و هو نفسه “الاه” ، فهل نجد أكثر من هذا الطرح “هتكا للمقدسات” ؟
و رغم أن الفيلم أثار حفيضة الأوساط المسيحية الراديكالية في بعض الدول الا أننا لم نسمع بدعاوى قضائية تطالب بتجريمه أو منع عرضه في الدول المتقدمة لأنه “يثير الفتنة” أو “ينتهك المقدسات” و لم نسمع مطالبين بهدر دم “ توم هانكس” بطل الفلم .
و لننتقل الى سلسلة الوثائقيات للمخرج “ مايكل مور” و ألتي تناول فيها مواضيع ناقدة لسياسة الحكومة الأمريكية من سطوة الشركات العضمى فيها على مواقع القرار الى اتهام مباشر للحكومة بتسهيل حوادث 11 سبتمبر لمجاهدي تورا بورا ، و لم نسمع بالحكومة تتهمه بالخيانة أو العمالة أو تقويض الأمن القومي ، بل أن أرقام العوائد ألتي حققها المثالان السابقان كانت أرقاما خيالية لا يمكن تفسيرها الا باقبال عام على البحث عن الرأي المخالف و الصادم ، بل أن الأكثر كوميدية هو أن رافعي شعارات المقدسات و الهوية عندنا يستعملون هذه الأفلام و الوثائق ليدافعوا بها عن آرائهم في حين يقمعون مواطني دولهم من ابداء آراء مخالفة لهم .
و لنترك الدول المتقدمة تتمتع بحرياتها و نعود الى تاريخ الدولة” الاسلامية” كما يحلو لرافعي شعار الهوية تسميتها و لنعد تحديدا الى زمن المأمون أين عرفت الدولة تحت حكمه نهضة علمية و فكرية لازالت تدعى الى اليوم بـ’العصر الذهبي” و ننظر الى بعض المفكرين في تلك الفترة و منهم “ابن الراوندي” و ألذي ألف عديد الكتب في نقد الاسلام و النبوة و منها كتاب “الزمرد” و ألذي نفى فيه نبوة محمد ، و كتاب “الدامغ” و ألذي طعن فيه في صحة القرآن و “التاج” و ألذي نفى فيه المعجزات الالاهية و وصفها بأنها “أخبار شرذمة قليلة يجوز عليها المواطأة في الكذب” ، و يقول أيضا :
“ ان الملائكة ألذين أنزلهم الله في يوم بدر لنصرة النبي بزعمكم كانوا مفلولي الشوكة قليلي البطشة على كثرة عددهم و اجتماع أيديهم و أيدي المسلمين ، فلم يقدروا على أن يقتلوا زيادة على سبعين رجلا ، فأين كانت الملائكة في يوم أحد لما توارى النبي ما بين القتلى فزعا و ما باله لم ينصروه في ذلك المقام ؟”.
و لك صديقي أن تتخيل ما ستكون رد فعل أصحاب شعار الهوية و المقدسات في يومنا هذا اذا تم عرض هذا القول على أحد القنوات التلفزية أو في أحد الاذاعات و هي ألتي تمثل اليوم مصدرا للمعلومة و تبادل الأفكار كما كانت تمثل الكتب في ذلك الوقت ، لكننا نقول لهم أن الراوندي ألف عشرات الكتب و عاش حياته كاملة و لم يمسه أحد بأذى أو بسوء أو أعدمه و حاكمه لأنه “ انتهك مقدسات الأمة” و “أثار الفتنة” .

و الجدير بالذكر أن مؤلفات ابن الراوندي و غيره ممن انتقد “المقدسات “ في ذلك الزمن كابن سينا و ابن حيان لم يتم المساس بها في العصر الذهبي بل تم حرقها في فترة انهيار الدولة و تراجعها الحضاري و هو ما يجعلنا نستنتج أن شعارات الفتنة و التخوين و التكفير و غيرها من عبارات التخويف و الارهاب الفكري هي في الحقيقة دلالة على ضعف الدولة و تراجعها الحضاري و تأخرها الثقافي ،و اذا كنا نعذر مفتعلي هذه القضايا و رافعي هذه الشعارات على قلة نظرهم و جهلهم بمفهوم الحرية و التقدم و الرغبة بالعودة الى العصور الوسطى فلا نقدر الا أن نلوم من يرفع شعار حرية التعبير و الرأي على السير في ركابهم و استعمال شعاراتهم الشعبوية من أجل مطامع ضيقة .

و الخوف أن يزيد تراجع دولنا أكثر فأكثر بسيطة هذا النوع من التفكير على الشعوب و تغلغلها في مواقع صنع القرار .

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق